


لقد جرت العادة في عالمنا العربي والإسلامي
أن تحتفل الدول الإسلامية في مثل هذه الأيام بذكرى الإسراء والمعراج
على صعيدين اثنين صعيد رسمي وصعيد شعبي.
إلى ضرورة استعادة الأقصى والعمل على تطهير هذه الأرض المقدسة
من دنس الصهاينة واليهود المحتلين.
بل هذه الخارقة التي أكرم الله عزَّ وجلَّ بها نبيّنا محمداً صلَّى الله عليه وعلى آله وسلّم
فإن إحياء هذه الذكرى عمل مبرور، بل هو عمل مطلوب
ولكن بشرط واحد هو ألا يكون المراد من إحيائها توظيف هذه الذكرى لغاية
بل ينبغي أن يكون المراد بإحيائها تجديد العهد مع الله الذي ابتعث رسوله
محمداً صلى الله عليه وسلم، وأيَّده بهذه الخارقة.
سبحانه وتعالى، واصطلاحاً معه سبحانه بعد طول شرود
وبُعد كثير من الانحراف عن نهجه وصراطه.
أما أن يُقبِل الناس على صعيد رسمي أو شعبي إلى الاحتفال والاحتفاء بهذه الذكرى
على سبيل التوظيف له من أجل غايات أيّاً كانت، فهذا ما لا يقبله الله عزَّ وجلَّ.
المسألة فيما يتعلق بالتعامل مع الله عزَّ وجلَّ تختلف عن التعامل مع عباد الله
ربُّنا سبحانه وتعالى يقول:
{وَما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ
وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 98/5].
أو هذه الأيام إنما ننتهزها لنوظف الذكرى لغايات معينة فإذا مرت هذه الذكرى
ومرت مناسبتها انحسر سلطانها عنا
ولم يبقَ أثر لها على سلوكنا أو على توجهاتنا أو على عقائدنا ربما وأفكارنا.
نحن نحتفل بذكرى هذه الخارقة الكبرى المتمثلة في الإسراء
برسول الله صلى الله عليه وسلم ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى
ثم العروج به في الليلة ذاتها إلى السماوات العلى
والعالم العربي كله ربما يحتفل بهذه الذكرى
كم هم الذين يوقنون بأنه الله عزَّ وجلَّ أسرى بعبده في تلك الليلة إلى المسجد الأقصى
ثم عرج به إلى السماوات العلى سماءً إثر سماء إثر سماء
حتى وصل إلى سِدرة المنتهى؟ كم هم؟
لا يقيمون لهذه الخارقة الكبرى وزناً
والمعتدلون منهم الذين يزعمون أنهم مؤمنون بالله ورسوله يزعمون أنها خارقة
مست الروح فقط ولا علاقة لها بالجسد
وأنه صلَّى الله عليه وسلَّم إنما أسري بروحه، وإنما عرج بروحه أيضاً
فهي لون من ألوان الرؤى أو المنامات لا أكثر.
الكثيرون منه مرتابون بهذه الخارقة العظمى
بل الكثير منهم كما رأيت وسمعت يستخفُّ ويستهزئ بها.
خارقة الإسراء والمعراج تضمنت فيما تضمنت خطاباً من الله عزَّ وجلَّ لهذه الأمة
عن طريق رسوله المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم في تلك الليلة
تضمن أمرها بخمس صلوات في اليوم والليلة، هي خمس صلوات في العمل والتنفيذ
وخمسون في الأجر
وعاد المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم ينبئ أصحابه ويبلغهم هذه الفريضة
ذات الأهمية القصوى
من أجل أن ينهض الكل بها ومن أجل أن يكون تنفيذها مظهراً للعهد الذي بين
العبد وربِّه سبحانه وتعالى
أين هي المؤسسات؟
أين هي المرافق التربوية والاجتماعية والمختلفة
التي تعتز بتنفيذ هذه الشعيرة، التي هي مظهر من مظاهر ليلة الإسراء والمعراج؟
أين ظاهرة الالتزام بالصلوات الخمس في كل الأصعدة وفي كل المرافق؟
وأحيل هذه المرافق إلى أفكاركم وإلى أذهانكم
ألا تعلمون أن فيها في هذه المرافق ما يستخف بهذه الشعيرة، بل ما يحاربها.
سيعذبون يوم القيامة، بسبب معاصٍ خطيرةٍ عكفوا عليها في دنياهم: من ذلك الرِّبا
من ذلك الفواحش، إلى آخر ما هنالك.
بين عينيه مظهراً للعذاب الواصل الذي سيناله التائهون يوم القيامة
العاكفون على كثير من الموبقات التي حذَّر الله عزَّ وجلَّ منها
ونحن الذين نحتفل بذكرى الإسراء والمعراج.
أين نحن من الوقوف في وجه الفواحش؟
أين نحن من الوقوف في وجه طريق إلى هذه الفواحش؟
أين نحن من استثارة العوامل التي تدعو إلى هذه الفواحش؟
والاحتفال بهذه الذكرى إنما يعني الانضباط الحق الصادق بمعتقداته
ثم الانضباط الحق الصادق بالسلوكيات المنبثقة عنه
هكذا يكون صدق الاحتفال والاحتفاء بذكرى الإسراء والمعراج.
وأما أن نظل شاردين عن صراط الله سبحانه وتعالى
وقد اختلط في مجتمعاتنا الحابل بالنابل، إيمان من جانب ورفض من جانب
وريبة من جانب وتقصير وإعراض عن معظم الأوامر الرَّبانية التي وجهها الله عزَّ وجلَّ
إلينا وخاطبنا بها، لاسيما في ليلة الإسراء والمعراج
وتوظيف هذه الذكرى شيء والعمل بمقتضاها شيء آخر.
ربما يلتبس الأمران عندما نتعامل مع أناس على شاكلتنا
عندما تتعامل دولة مع دولة، أناس مع أناس
لكن عندما يتعامل العبد مع مولاه وخالقه
عندما يتعامل العبد مع ربِّه الذي يعلم السِّر وأخفى والقائل في محكم تبيانه:
{سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ}
[الرعد: 13/10]، في هذه الحالة الأمر لا يلتبس.
ربُّنا سبحانه وتعالى يأمرنا أن نكون مع الصادقين، وأن نكون منهم
ربُّنا سبحانه وتعالى يأمرنا أن نُخْلِصَ دينَنا لله سبحانه وتعالى
وألاّ نجعل منه مجرد أُطُرٍ نزيِّن بها حياتنا الاجتماعية في مناسبات تأتي ثم تمرُّ.
من هنا نعلم الجواب الشافي المنطقي عن سؤال كثيراً ما يتردَّد:
ها نحن نحتفل في مثل هذه المناسبة بذكرى الإسراء والمعراج
تُلقى القصائد الطَّنانة والخُطب الرَّنانة، وربما أُذيعت وبُثَّت في الفضائيات المختلفة
وانتقلت أصدائُها شرقاً وغرباً، فلماذا لا نجد ثمرة ذلك انتصاراً؟
سؤال غبي، سؤال لا يمكن أن يمرَّ تحت مصباح عقل متبصِّر أبداً.
وأننا نجعل منها تجديد عهد مع الله، وتجديد توبة صادقة إلى الله سبحانه وتعالى
وعندما نجعل منها اصطلاحاً مع الله، أن نقوِّمَ اعوجاجنا، وأن نتدارك تقصيرنا
فنقوم بالواجبات التي تمليها علينا خارقة الإسراء والمعراج في مختلف
مؤسساتنا التربوية والاجتماعية والعسكرية المختلفة
هو القائل وهو الصادق فيما قال: {وَكانَ حَقّاً عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}
[الروم: 30/47] ولكن الإيمان ليس بالتَّمني ولا بالتَّحلي.
إنما ينبع من كيان خضع عقله ثم خضعت عواطفه للمولى سبحانه وتعالى
عندئذ تثمر الاحتفالات بذكرى الإسراء والمعراج ثمراتها المرجوة.
أما أن نوظِّف هذه المناسبات كواجب اجتماعي أو تقليد عرفي
فهذا شيء يمكن أن يتعامل على أساسه الناس بعضهم مع بعض
أما أن يتعامل العبد على هذا الأساس مع ربِّه فهذا مرفوض والله سبحانه وتعالى
لا يتقبل مثل هذا العمل المنطوي على الكذب والمنطوي على النفاق والرِّياء.

فضل نعيم الجنة على متاع الدنيا

والناس يتأثرون بما يرون ويشاهدون
ويثقل على قلوبهم ترك ما بين أيديهم إلى شيء ينالونه في الزمن الآتي
فكيف إذا كان الموعود ينال بعد الموت؟ من أجل ذلك قارن الحق- تبارك وتعالى -
بين متاع الدنيا ونعيم الجنة، وبين أن نعيم الجنة خير من الدنيا وأفضل
وأطال في ذم الدنيا وبيان فضل الآخرة
وما ذلك إلا ليجتهد العباد في طلب الآخرة ونيل نعيمها.
الدنيا القريب العاجل في مواضع كثيرة
كقوله - تعالى -:
(لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها
نزلاً من عند الله وما عند الله خيرٌ للأبرار) [آل عمران: 198]
فيه ورزق ربك خيرٌ وأبقى) [طه: 131].
(زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب
والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المئاب *
قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجرى من تحتها الأنهار
خالدين فيها وأزوج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد)
[آل عمران: 14-15].
(قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى) [النساء: 77].
وقد صور لنا الرسول - صلى الله عليه وسلم -
قلة متاع الدنيا بالنسبة إلى نعيم الآخرة بمثال ضربه فقال: " والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه وأشار بالسبابة في اليم
فلينظر بم ترجع "(1).
ما الذي تأخذه الإصبع إذا غمست في البحر الخضم
إنها لا تأخذ منه قطرة. هذا هو نسبة الدنيا إلى الآخرة.
ولما كان متاع الدنيا قليلاً
فقد عاتب الله المؤثرين لمتاع الدنيا على نعيم الآخرة
(يا أيها الذين ءامنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض
أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل)
[التوبة: 38].
فثياب أهل الجنة وطعامهم وشرابهم وحليهم وقصورهم أفضل مما في الدنيا
بل لا وجه للمقارنة، فإن موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها
ففي صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه -
قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
" موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها "(2).
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
" ولقاب قوس أحدكم من الجنة خير مما طلعت عليه الشمس " (3).
وقارن نساء أهل الجنة بنساء الدنيا لتعلم فضل ما في الجنة على ما في الدنيا
ففي صحيح البخاري عن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
" لو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت على الأرض لأضاءت ما بينهما
ولملأت ما بينهما ريحاً، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها " (4).
الثالث: الجنة خالية من شوائب الدنيا وكدرها
فطعام أهل الدنيا وشرابهم يلزم منه الغائط والبول، والروائح الكريهة
وإذا شرب المرء خمر الدنيا فقد عقله، ونساء الدنيا يحضن ويلدن، والمحيض أذى
والجنة خالية من ذلك كله، فأهلها لا يبولون ولا يتغوطون،
ولا يبصقون ولا يتفلون، وخمر الجنة كما وصفها خالقها
(بيضاء لذة للشاربين * لا فيها غولٌ ولا هم عنها ينزفون) [الصافات: 46-47]
(أنهار من ماء غير ءاسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه) [محمد: 15]
ونساء أهل الجنة مطهرات من الحيض والنفاس وكل قاذورات نساء الدنيا
كما قال - تعالى -: (ولهم فيها أزوج مطهرة) [البقرة: 25].
فلا تسمع في الجنة كلمة نابية تكدر الخاطر، وتعكر المزاج، وتستثير الأعصاب
فالجنة خالية من باطل الأقوال والأعمال، (لا لغو فيها ولا تأثيم) [الطور: 23]،
ولا يطرق المسامع إلا الكلمة الصادقة الطيبة السالمة من عيوب كلام أهل الدنيا
(لا يسمعون فيها لغواً ولا كذابا) [النبأ: 35]
(لا يسمعون فيها لغواً إلا سلاما) [مريم: 62]
(لا تسمع فيها لاغية) [الغاشية: 11]
إنها دار الطهر والنقاء والصفاء الخالية من الأوشاب والأكدار
إنها دار السلام والتسليم
(لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً * إلا قيلاً سلاماً سلاما) [الواقعة: 25-26].
ثم يهذبون وينقون بأن يقتص لبعضهم من بعض
فيدخلون الجنة وقد صفت منهم القلوب
وزال ما في نفوسهم من تباغض وحسد ونحو ذلك مما كان في الدنيا
وفي الصحيحين في صفة أهل الجنة عند دخول الجنة
" لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب واحد، يسبحون الله بكرة وعشياً " (5).
وصدق الله إذ يقول:
(ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين) [الحجر: 47].
أن أهل الجنة عندما يدخلون الجنة يشربون من عين فيذهب الله ما في قلوبهم
من غل، ويشربون من عين أخرى فتشرق ألوانهم وتصفو وجوههم.
ولعلهم استفادوا هذا
من قوله - تعالى -: (وسقاهم ربهم شراباً طهورا) [الإنسان: 21]. (6)
ولذلك سمى الحق- تبارك وتعالى - ما زين للناس من زهرة الدنيا متاعاً
لأنه يتمتع به ثم يزول، أما نعيم الآخرة فهو باق، ليس له نفاد
(ما عندكم ينفد وما عند الله باق) [النحل: 96]،
(إن هذا لرزقنا ما له من نفاد) [ص: 54]، (أكلها دائم وظلها) [الرعد: 35]،
(واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض
فأصبح هشيماً تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا *
المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خيرٌ عند ربك ثواباً وخيرٌ أملا)
[الكهف: 45 46].
الذي يخالط نبات الأرض فيخضر ويزهر ويثمر
وما هي إلا فترة وجيزة حتى تزول بهجته، فيذوى ويصفر
ثم تعصف به الرياح في كل مكان، وكذلك زينة الدنيا من الشباب والمال والأبناء الحرث والزرع...
كلها تتلاشى وتنقضي، فالشباب يذوى ويذهب، والصحة والعافية تبدل هرماً ومرضاً،
والأموال والأولاد قد يذهبون، وقد ينتزع الإنسان من أهله وماله
أما الآخرة فلا رحيل، ولا فناء، ولا زوال (ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين *
جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار) [النحل: 30-31].
(كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار
وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) [آل عمران: 185].

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق