الأحد، 31 مارس 2013

اللغــز . .






الحقيقة أكثر إدهاشاً من السحر و الخيال و المعجزة .. أنها هى نفسها المعجزة ..

إن خروجي من بطن التمساح حياً .. و ابتلاعى سكيناً .. و إخراجي للشمس من كمي .. ليست معجزات .. إنها بهلوانيات و خوارق للنظام ..
و المعجزة الحقيقية لا تكون فى خرق النظام .. و إنما المعجزة الحقيقية هي فى إحلال النظام .

إن شروق الشمس من الشرق كل يوم و منذ ملايين ملايين السنين و دورانها فى فَلَك واحد من الشرق إلى الغرب في دقة و نظام أكثر إعجازاً من خروجها من كمي مرة و خروجها من تحت إبطي مرة أخرى ..

إن معجزة الكون فى انضباطه بقوانين محكمة دقيقة ..

إن معجزته هي فى حلول النظام و الترتيب فى كتلته المهوشة العمياء من المادة و انتظامها فى تواليف و تراكيب هندسية جميلة .. إن الحاوي الذي يمزق المنديل إلى عشرات القصاصات ثم يعيده إلى صورته الأولى أمام عينيك قد يدهشك .. و لكن الحياة تقدم كل يوم فى بساطة و تواضع ما هو أكثر إعجاز من هذه اللعبة .

إن الإسفنج الذى تمزقه الدوامات البحرية ، و الأسماك المتوحشة ألف قطعة و قطعة .. ما تلبث كل قطعة فيه أن تسبح مع الماء و تنمو إسفنجاً جديداً كاملاً .

و أنت لن تستطيع أن تتصور إلى أي مدى يستطيع حيوان الإسفنج أن يتحمل التمزق .. و لكن البروفسور و يلسون .. أستاذ علم الحيوان قام بإجراء تجربة بديعة ..
مزق فيها الإسفنج فتافيت صغيرة بإبرة ثم طرقه بشدة بمطرقة ثم طحنه و هرسه و عصره فى قماش دقيق الثقوب .. ثقوبه أدق من ثقوب المنخل .. و من النخالة التى سقطت بعد هذا التمزق و الهرس و الطحن الرهيب استطاع الإسفنج أن يتخلق من جديد .. من كل نقطة .. و من كل ذَرّة .. و ينمو إلى صورته السوية .. و كأن لا شيء حدث ..

هذه حقيقة و لكنها في ذات الوقت معجزة أكثر إعجازاً من سحر الساحر الذى مزق المنديل ألف قطعة ثم إعادته منديلاً من جديد .

و قد كنت دائماً أشعر بأن في طبيعة الحياة على بساطتها سراً عميقاً و لغــزاً معجـزاً .. يستحق التأمل الطويل و البحث المتصل .

كانت الحياة دائماً تشغلني ..

هذه القدرة الخارقة فى الحياة على أن تعبىء نفسها و تحارب قوى التمزق و تحافظ على تماسكها و وحدتها فى مواجهة ظروف تبعثرها و تشتتها في كل لحظة ..
هذه القدرة تدلنى على أن جوهر الحياة واحد بالرغم من تعدد الكائنات الحية و تنوعها ..
جوهر واحد لا يقبل التقسيم و لا التجزئة ..
جوهر مبثوث فى كل جزء و فى كل بضعة بروتوبلازم ..
بحيث يصبح كل جزء قادرا على أن يصبح كاملاً .


إن السكين التى قطعت الإسفنج لم تستطع أن تقطع جوهر الحياة فيه ، لأن الحياة شيء بسيط . كالصفة .. منبثة فى كل الأجزاء الحية .. شيء لا يقبل القسمة .

و ما حدث في الإسفنج يحدث فى كثير من النباتات .. كثير من النباتات تنمو بالتقليم .. أى قلامة تقطع منها و تزرع ..
تنمو و تستحدث لها بنية جديدة و تعيد تخلق كل الأجزاء التى تنقصها .. و في هذا ما يدل على أن كل جزء من النبات يحتوي بطريقة ما على كل تفاصيل النبات مطبوعة فى باطنه تماماً كما يحتوى الجنين على صورة الإنسان بكامل أعضائه باطنة فى خلاياه .

إذا قطعت قلامة من شجرة صفصاف و زرعتها ، فإنها ما تلبث أن تنمو شجرة كاملة .. يخرج الجذر .. من طرف القلامة السفلي و تخرج الفروع من الطرف العلوي .. و إذا قلبت القلامة عاليها سافلها .. خرجت الجذور من تحت و الفروع من فوق ..
و هذا يدل على أن كل نقطة في نسيج القلامة فيها إمكانية النمو إلى الجذور و إمكانية النمو إلى فروع فى نفس الوقت ..
و النبات يختار حسب وضعه .. الجزء الذي يسفل تخرج منه الجذور و الذي يعلو تخرج منه الفروع .

و هذا يدل على أن جوهر الحياة جامع لكل الإمكانيات .. إمكانيات الفروع و إمكانيات الجذور في نفس الوقت و أنه لا يقبل التجزئة .. و أنك مهما جزأت النسيج الحى سيظل كل جزء جامعا فى وحدته لكل إمكانيات المخلوق الحى ..

و لهذا السبب كانت الحياة فى مستوياتها الدنيا غير فانية .. كانت الميكروبات لا تموت .. كانت حينما تبلغ غاية النضج .. تنقسم ، فيصبح كل قسم قادرا على النمو و النضج بذاته .. ثم يعود ، فينقسم .. فيصبح الواحد اثنين ثم أربعة ثم ثمانية ثم ستة عشر .. إلخ .. دون أن تنطفى الحياة بشيخوخة أحدها .

و لم تظهر الشيخوخة و الموت إلا بظهور الأنواع الراقية المعقدة من الحيوان و النبات و بظهور الخلايا الجنسية المعقدة المتخصصة فى التكاثر و نقل الحياة من جيل إلى جيل .

الموت كان ضريبة التخصص .. تخصص خلايا بعينها فى نقل الحياة .. و أصبح دور الكائن الحى ينتهى عند تكوين هذه الخلايا الجنسية و نقلها بالتلاقح و التزاوج حيث يتم إنجاب أجيال جديدة .. ثم يموت و تنتهى حياته .

و لكن القدرة على التجدد و الحياة كانت من قبل هذا التخصص منبثة فى النسيج الحى كله .

* * * *

ما الحياة ؟
و ما سرها ؟

من الذى علم الكتكوت أن يكسر البيضة عند أضعف أجزائها و يخرج .

من الذى علم الطيور الهجرة عبر البحار و الصحارى إلى حيث تجد الغذاء الأوفر و الجو الأحسن و إلى حيث تتلاقح و تتوالد .. و من الذى يسدد خطاها طوال هذه الرحلة عبر ألوف الأميال ، فلا تضل و لا تتوه .

من الذى علم دودة القز أن تنسج من ثوبها مرة بعد آخرى .. ثم تنزوى فى ركن لتبنى لنفسها شرنقة من حرير تنام فيها ليالى طويلة مثل أهل الكهف ثم تخرج منها فراشة بيضاء جميلة .

هذا الانتقال المنظم الدقيق من نمط من الخلية إلى نمط آخر .. و هذا التطور من دودة إلى حشرة و الذى تتعاون فيه ملايين الخلايا فى تلقائية يحدث بلا معلم .. لأن المعلم هو فطرة إرشادية مغروسة فى المادة الحية بطريقها لا يعرفها أحد .. إن قصة حياتها مكتوبة بشفرة بروتوبلازمية فى مادة الخلايا .

من الذى علم أبو ذنيبة كيف يصنع لنفسه ذنبا حينما تقطع له ذنبه .. لا أحد .. إن العلم باطن فى خلاياه .. كل خلية تعرف دورها معرفة تلقائية و تؤديه .

و بالمثل ما يحدث لنا حينما نجرح .. فتلتئم جروحنا من تلقاء نفسها .. و حينما تجرح الأشجار ، فتلتئم بنسيج من الفلين يملاء ما بين شفرات جروحها .

و بالمثل ما يحدث لنا .. بدون جراح .. و بدون أمراض .. حينما يحقق لنا جسمنا بمعجزاته الداخلية درجة حرارة ثابتة فى الحر و فى البرد .. و يحتفظ لنا بوزن ثابت فى ظروف مختلفة من الجوع و الشبع .. و يحتفظ بوحدته و سلامته فى مواجهة جيوش جرارة من الميكروبات تعمل ليل نهار على تفكيكه و تفتيته و هضمه و أكله ..

هذا التوازن الدقيق الذى يتحقق بفاعلية مستمرة من الداخل و حركة دائبة لتصحيح كل خطأ هو الذى يثير التفكير ..

إن الحياة تبدو كراقص على حبل مشدود يلتزم منهجا لتقويم خطواته فى كل لحظة .

و هذا هو نفس ما يحدث فى داخل الخلايا الحية .. فى داخل الخلايا الحية تقويم ذاتى و منهج تخليقى و نشدان مستمر لهدف مرسوم من الأصل .

نمو قلامة الصفصاف إلى شجرة صفصاف فى إصرار يدل على أن برنامج النماء كله و المنهج بكامله كان مرسوما فى خلايا القلامة الصغيرة .

كانت فى هذه الخلايا نزعة أصلية و استهداف فطرى نحو التكامل و التصور فى صورة كاملة تحاكى الأصل و تفوقه..

كانت فيها فطرة إرشادية قادت حركتها خطوة خطوة فى طريق النمو المتشعب المعقد .

و هى حركة ليست بالحركة السهلة و لا بالحركة المأمونة و إنما هى كحركة البهلوان الذى يمشى على حبل مشدود .. حركة تهددها المخاطر .. إن القلامة الصغيرة نمت فى مواجهة العواصف و الحر و البرد و الجفاف و عدوان الطفيليات و حافظت على وحدتها و سلامتها و اتزانها و كيانها طوال هذا النمو البطىء خطوة خطوة .

و كل هذه الفاعليات التى تعطى للمادة النظام و السلامة ..

و القانون .. هى الحياة .

الحياة هى التى جعلت المادة المهوشة .. ذات صورة .. و ذات شكل .. و ذات نظام .. و ذات قانون .

و بدون الحياة تعود المادة المادة فتنفرط و تحلل من هياكلها الجميلة المصورة إلى تراب .

الجسد الحى الجميل المتناسق الرشيق الذى يتصرف بنظام و يفرض على الدنيا حوله نظامه و قانونه ينهدم بالموت و يتحلل و ينفرط إلى تراب .

و التفسير العلمى للحياة بأنها نشاط كيماوى .. تفسير غير كاف .. لأن الجسم الميت يحتوى على نفس المواد الكيماوية التى فى الجسم الحى .. و التراب يحتوى على نفس المقادير من الحديد و النحاس و الكربون .

و القول إن الرغبة الجنسية يحث عليها هرمون التستوسيرون لا يفسر لنا تلك الرغبة الجنسية .. لأننا سنقول : و ما هى الفاعلية التى صنعت التستوستيرون فى الجسم ..؟!

و بالمثل حينما يقول لنا عالم النبات : إن حركة عباد الشمس نحو الشمس ينظمها هرمون " الأوكسجين " .. لن نعتبر المشكلة قد حلت .. و إنما سوف نسأل : و ماهى الفاعلية التى صنعت هذه المادة المثيرة التى تضبط كمياتها فى نسيج النبات ؟!

إن التركيب الكيماوى للخلية لا يكشف لنا سر حياتها .. لأن الحياة ليست مجرد منظومة جامدة جامدة مثل البيت أو المصنع و إنما هى منظومة فيها قدرة على تكرار نفسها و التفوق على نفسها .. و فيها فطرة إرشادية تقودها من الداخل .. فطرة مبثوثة فى نسيجها تجدد ما يتلف منها و تستحدث ما يضيع . و اللغز فى هذه البصيرة المطوية فى تضاعيف المادة .. و ليس فى تركيب المادة نفسه .

إن المشكلة تحتاج إلى تفكير أكثر ..


د. مصطفى محمود . .
من كتاب / لغز الحيــــاة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق